بيروت – بعد الهجوم العنيف الذي شنّه أمين عام حزب الله اللبناني حسن نصر الله ضد رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع؛ قفز الاستقطاب السياسي حول أحداث “الخميس الدامي” في لبنان إلى مرحلة جديدة.
واتهم نصر الله جعجع بإثارة الحرب الأهلية سعيا إلى تحقيق مكاسب ديموغرافية تخلق نوعا من “الكانتون المسيحي”، وفي الوقت ذاته طمأن المسيحيين بأنه لا يحمل مشروعا ضدهم، مؤكدا أن جعجع هو خصمهم وخصم لبنان.
ورأى محللون أن تخصيص نصر الله خطابا للهجوم على جعجع، مع ما يمثله حزب الله داخليا وإقليميا وعسكريا؛ أعطى قوّة دفع للقوات كحزب سياسي مسيحي محلي، ولخصوصه الإقليميين والدوليين.
وكان حزب الله وحركة أمل نظما مظاهرة الخميس الماضي للمطالبة بتنحية المحقق العدلي بانفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار، ولكنها شهدت اشتباكات سقط خلالها 7 قتلى وعشرات المصابين.
ووقعت الاشتباكات في منطقة الطيونة الفاصلة بين الشياح (ذات الأغلبية الشيعية) وعين الرمانة (ذات الأغلبية المسيحية).
واتهم حزب الله وحركة أمل حزب القوات بالتورط في قتل المتظاهرين.
وأمس الاثنين، وصف نصر الله الحادثة بأنها “مجزرة” ارتكبتها القوات في منطقة ذات رمزية مكثفة تستعيد خطوط التماس للحرب الأهلية (1975-1989)، مطالبا الجيش باستكمال تحقيقاته بعد أن أظهرت كاميرات المراقبة سقوط قتيل على يد جندي.
القوات ترد
لكن حزب القوات نفى هذا الاتهام، ورأى أن ما جرى رد فعل عفوي من قبل أهالي عين الرمانة “الذين تعرضوا للهجوم والاعتداء”.
ويرى إيلي خوري مستشار رئيس حزب القوات اللبنانية للعلاقات الخارجية أن العنوان العريض لخطاب نصر الله بالنسبة للقوات هو تعمده تحييد الجيش، رغم ما كشفته كاميرات المراقبة، واستمراره في اتهامهم بدل انتظار انتهاء التحقيقات.
وصرح خوري للجزيرة نت بأن القوات تستغرب استباق نصر الله للتحقيقات، وتراه محرجا أمام جمهور حزب الله وحركة أمل، “كأنهما غير قادرين على أن يتراجعا عن اتهام باطل”.
ويلفت خوري إلى أن جعجع لا يكترث لنبش الماضي لدى الهجوم عليه، “لأننا تعودنا ذلك لدى بلوغ خصومنا مرحلة سياسية حرجة، وهي اتهامات مبنية على مغالطات وسجن جعجع إثرها بحكم سياسي”.
وقال إن المسيحيين -وعلى رأسهم القوات- تعلموا من تجربة الحرب بعد أن انتهت بخسارة الجميع، ولا ندفع لتكرار سيناريو الماضي. ومع ذلك، “يدافع المسيحيون عن أنفسهم ووجودهم، بشكل عفوي وليس بنوايا مسبقة، ولا يريدون الذهاب للحرب”.
ويرى مستشار جعجع أن المسيحيين يشعرون بالتهديد، وثمة “حالة من التشنج والتوتر يعيشونها نتيجة الريبة من استهدافهم، ونتمنى العمل على تبديد التوتر”.
ويتساءل: “لم التغاضي عن جرحى عين الرمانة وأضرارهم المادية الكبيرة مقابل التركيز فقط على خسائر الثنائي أثناء هجومهم على عين الرمانة؟” مؤكدا أن “القوات” لا يمكن أن تغطي عمليات قتل في مناطقها مهما كلف الأمر.
أجندات خارجية
وسلط نصر الله الضوء على العلاقات الإقليمية والدولية لحزب القوات، مقابل تذكيره بأن حزب الله كان رأس حربة بالدفاع عن وجود المسيحيين في لبنان وسوريا ضد التنظيمات الإسلامية (داعش)، وفق رأيه.
وهنا، يقول إيلي خوري إن نصر الله عند كل خلاف سياسي مع “القوات” يهاجم خصومه الإقليميين، ويتهمهم بالتواطؤ معهم، كالسعودية وأميركا وحتى إسرائيل.
وأضاف أن موقف “القوات” المعارض لحزب الله واضح لكونه يحمل مشروعا يتخطى حدود لبنان، و”نرى أن حزب الله هو العائق الوحيد أمام قيام الدولة بعد اتفاق الطائف (1989)”.
استعراض القوة
وركز اللبنانيون على إشارة نصر الله إلى أن لدى حزبه 100 ألف مقاتل مدربين ومجهزين في لبنان بأسلحتهم المختلفة، والتي أتبعها بسؤال: “مع من تريد أن تجري حربا أهلية؟”
وهنا، يشير الكاتب والمحلل السياسي إبراهيم حيدر إلى أن نصر الله أصر على استعراض قوته، من دون أن يدعو للتهدئة.
ويرى حيدر أن نصر الله أراد أيضا توفير حماية وغطاء لحليفه المسيحي الأول رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل، بعد أن شن الأخير هجوما عنيفا على خصمه المسيحي سمير جعجع.
وعليه، أراد نصر الله -حسب حيدر- التوجه للمسيحيين للقول إن اتفاق “مار مخايل” بين حزب الله والتيار الوطني الحر (2006) هو خلاصهم للتعايش والمصالحة السياسية والطائفية.
ويقول حيدر إن القوات استفادت من تصعيده ضدها، لأن الشارع المسيحي سيراها كحزب يتعرض للهجوم بعد أن حاول حمايته من التهديد في مناطقهم.
وقال إن نصر الله يسعى لتقديم نفسه ليس بوصفه طرفا شيعيا فحسب، بل كصاحب القوة المطلقة في رسم موازين السلم الأهلي. لكنه “غير قادر على الدخول في دوامة الاقتتال الداخلي، وكذلك القوات”.
من جهته، يرى الكاتب والمحلل السياسي علي شكر أن خطاب نصر الله كان دقيقا من دون مجاملات لأحد، وأعطى وصفا واقعيا للشارع المسيحي وخياراته من منظار الحزب، كحام ومدافع عن المسيحيين في معارك عدة.
ويرى شكر أن تصعيد نصر الله شكلي، وأنه أضمر سعيا للتهدئة، وامتص التوتر مع القوات، مقابل إرساء قوة ردعه، لأن الصدام والمواجهة ليسا من مصلحة حزب الله في ظرف شديد التعقيد والحساسية.
لكنه توقع أن يؤسس خلاف حزب الله والقوات إلى مرحلة جديدة عنوانها التفلت المتنقل، وتحويل مناطق لبنان لساحات مواجهة وخطوط تماس عند كل منعطف سياسي خطير.
غير أن إيلي خوري يشير إلى أن القوات “لم تعد حزبا مسيحيا فحسب، بل تتمدد بكل لبنان ولديها منتسبون من مختلف الطوائف، وهذا ما ستكشفه الانتخابات”، وشعارها “بناء دولة قوية ومستقلة من دون سلاح غير شرعي”.
تعليق التحقيقات والحكومة
وحتى الآن، ما زالت حكومة نجيب ميقاتي عاجزة عن الاجتماع، بعد أن طلب الثنائي حزب الله وحركة أمل تنحية المحقق العدلي في انفجار مرفأ بيروت القاضي طارق البيطار.
ولم يطرأ جديد حول مصير البيطار الذي يتمسك بصلاحياته الدستورية والقضائية، في حين تبحث بعض القوى السياسية عن مخرج دستوري لكفّ يده، لعجزها عن تحقيق ذلك بقرار سياسي من الحكومة.
ويشير علي شكر إلى أن عدم إمكانية ضبط الأمور بين القوى السياسية وتهديد السلم الأهلي سيدفع نحو تنحية البيطار، “لأن بقاءه يعني استمرار الأزمة، وحزب الله سيحمله تداعيات ما يجري، وتنحيته تشكل تنفيسا للاحتقان وستسهل استئناف عمل الحكومة بعد بلوغ التصعيد ذروته”.
وكذلك يرى إبراهيم حيدر أن التصعيد ما زال مضبوطا وإن كانت الفوضى هي المتحكمة بلبنان. ويستبعد المحلل إنجاز تسوية لفتح الطريق أمام الحكومة قريبا، ما دام أن حزب الله وحركة أمل لم يتراجعا عن المطالبة بتنحية البيطار.
وفي رأي حيدر، يصر حزب الله على ربط مصير جلسات الحكومة بتنحية البيطار وأحداث الطيونة، والإشكالية الجوهرية اليوم حول مدى قدرة البيطار على تحمل الضغوط والمضي بالتحقيق، “بدل الإتيان بقاض يحفظ مصالح القوى السياسية، على حساب الحقيقة”.